بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ابن عبد الله وأله وصحبه أجمعين. أما بعد .... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلخيص كتاب تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك
المؤلف الماوردي وهو أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي المتوفى 450هــــ
 وهومن فقهاء الشافعية وإمام في الفقه والأصول والتفسير، وبصير بالعربية. كان من رجال السياسة البارزين في الدولة العباسية وخصوصًا في مرحلتها المتأخرة.
نشأ الماوردي بالبصرة، وتعلّم وسمع الحديث من جماعة من العلماء، وتولى القضاء، تألق نجم الماوردي عند عودته إلى بغداد وقيامه بالتدريس. 
اشتهر الماوردي بكثرة التأليف وغزارة الإنتاج، ولكن لم يصل إلينا من مؤلفاته إلا القليل. ومن أبرزها: أدب الدنيا والدين؛ أعلام النبوة؛ الحاوي الكبير؛ الإقناع وهو مختصر لكتاب الحاوي الكبير. ومن أشهر كتبه الأحكام السلطانية وتسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك.
وأما عن الكتاب الذي تم تلخيصه وتحليله تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك قد تم في ستة وعشرين فصلاً في مئتان وتسع وثمانون ورقة. وقد تم تلخيصه وتحليله في اربعة عشر صفحة واضعا الموضوعات و، التقسيمات والمحاور وتعريفات الكتاب والوظائف التي حددها منطلقا للتلخيص.
وهو في أخلاق الملك، وسياسة الملك، وأنواع الحكومات، يبدأ فيه بمفهوم الأخلاق، ويُبيِّن أسس الملك وقواعده، واختيار الأعوان ومحاسبتهم، وأسباب الفساد الراجعة إلى تقصير الأعوان وافتقاد الرأي والمشورة، وكَيْد الأعداء، ويتميَّز هذا المؤلَّف بأنه أوَّل كتاب في الفِكر السياسي الإسلامي الذي استقصى فيه أنواعَ السلطة، وأنواع الحكومات، وفصَّل فيها.
إذ يقسم الماوردي كتابه: إلى قسمين واضحين، الأول في الأخلاق التي ينبغي أن يتسم بها الملك أو السلطان، والثاني في السياسة التي ينبغي أن يسلكها أو يسير عليها، 
أولاً: المفهوم: السلطة والسلطان والملك:
    يفتتح الماوردي بقوله «... إن الله جل اسمه ببليغ حكمته، وعدل قضائه جعل الناس أصنافًا مختلفين، وأطوارًا متباينين، ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين، وبالتباين متفقين، فيتعاطفون بالإيثار تابعاً ومتبوعًا، ويتساعدون على التعاون آمرًا ومأمورًا، فوجب التفويض إلى امرة سلطان مسترعي، ينقاد الناس لطاعته، ويتدبرون بسياسته ليكون بالطاعة قاهراً، وبالسياسة مدبراً، وكان أولى الناس بالعناية بما سيست به الممالك، ودبرت به الرعايا والمصالح، .......
        غير أن جوهر المفهوم والظاهرة يتضح في تلك التفرقة بين الـمُلك والدولة ـ فالـمُلك الذي يفيد ـ لغة ـ اتساع المقدور. وقوة اليد في القهر للجمهور الأعظم، أما الدولة فهي تفيد ما ينال من المال بالدولة فيتداوله القوم بينهم هذا مرة وهذا مرة»
    فالملك أو السلطان يمثل الاستمرارية والبقاء والجوهر، أما الدولة فيمكن أن تتغير أو تتبدل أو تنتقل، فالدولة شكل من اشكال السلطة أو السلطان
 مفهوم السلطة عن الماوردي رحمه الله يدور حول مفاهيم ومدركات ثلاثة:
أ‌) الحجة والبينة 
ب) اتساع المقدرة 
جـ) التدبير والتصرف في الأمر
    وهكذا فإن الماوردي يربط المجتمع بالدين فلا مجتمع بلا دين في نظره، فالعرف العام والشامل (الدين) هو الشرط الضروري لاستمرار الاجتماع 
تأسيس السلطة عند الماوردي رحمه الله ثلاثة أنواع:
    ثلاثة أشكال لتأسيس السلطة «سياسة الـمُلك» يتحدث الماوردي عن «إن الدين والملك توأمان لا قيام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أساس والملك حارس، ولابد للملك من أسه، ولابد للأساس من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، ومالا أس له منهدم»
النوع الأول: السلطة الشرعية.
    وهي تأسيس سلطة معينة على دعوة دينية، والمثال الحي على ذلك تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في ظل الدعوة.
    يقول الماوردي عن هذا التأسيس أنه «أثبتها قاعدة، وأدومها مدة _ وأخلصها طاعة» ثم يستعرض بعد ذلك _ كيفية إعمال هذا التأسيس في الواقع وتحويله إلى مجموعة من الممارسات مما سنتعرض له فيما بعد في تناولنا للوظائف وبالذات. الوظيفة العقيدية والاتصالية، ويختتم ببيان كيف يتدهور هذا التأسيس وينهار مما سنتعرض له في المبحث الثالث من الدراسة.
النوع الثاني: السلطة الجبرية السلطانية.
    وهو تأسيس سلطة معينة على قوة قاهرة «حراسة الدين وسياسة الدنيا به». ثم حاول ربطه بالشرعية إذا ما قام بالأدوار والوظائف الأساسية اللازمة لحفظ الدين وحراسته ورعاية الدنيا وصيانتها، وتنفك عنه هذه الشرعية إذا ما فعل النقيض وقام بالضد. وذلك ما توضحه عبارة الماوردي «... ينتدب لطلب الملك أولو القوة، ويتوثب عليه ذوو القدرة، إما طمعًا في الملك حين ضعف، وإما دفعاً للظلم حين يستمر، وهذا يتم لجيش قد اجتمعت فيه ثلاث خلال، كثرة العدد، وظهور الشجاعة، وتفويض الأمر إلى مقدم عليهم إما لنسب أو أبوة، وإما لفضل رأي وشجاعة، فإذا توثبوا على الملك بالكثرة واستولوا عليه بالقوة، كان ملك قهر، وإن عدلوا مع الرعية وساروا فيهم بالسيرة الجميلة صار ملك تفويض 
النوع الثالث: تأسيس مال وثروة.
    وهو إمكانية وصول النخبة المالكة اقتصاديا واستحواذها على السلطة ويقول الماوردي رحمه الله في ذلك الصدد فَإِذا انْتقل بِهِ الْملك كَانَ أَوْهَى الْأَسْبَاب قَاعِدَة وأقصرها مُدَّة لِأَن المَال ينفذ مطامع طالبيه وَيذْهب باقتراح الراغبين فِيهِ
وَقد قيل «عقلية» اهتدى إليها الماوردي 
    هذه الأنواع التنظيرية الثلاثة التي قدمها الماوردي في «تسهيل النظر.» باعتبارها أشكالاً وأنواعًا للسلطة... 
تطور السلطة وتحولاتها:
    ففي خاتمة الفصل الذي عقده الماوردي لبيان أقسام التأسيس واعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع، وشدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة، ثم تتوسط باللين والاستقامة لاستقرار الملك وحصول الدعة، ثم تختم بانتشار الجور وشدة الضعف لانتقاص الأمر، وقلة الحزم».
وهنا يقسم الماوردي أطوار السلطة في ثلاثة متقلبة وهي:
الطور الأول: والذي تكون فيه محتاجة إلى تثبيت الأركان واستقرار الأمر، وبالتالي فإنها تسرع باستخدام الشدة لكي تتحقق لها الرهبة والمنعة _ «تبتدئ بتخشونة الطباع، وشدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة».
الطور الثاني (الوسيط): وهنا تتصف السلطة بالاستقامة واللين وحدوث الرخاء والرفاه.
الطور الثالث (الأخير): والذي يختتم بانتشار الجور، وشدة الضعف لانتقاض الأمر
وهكذا فإن السلطة في تطورها وحركيتها تنتقل في _ أشكال معينة _ وذلك في إطار هذه المراحل الثلاثة، 
وظائف السلطة وأدوارها
بعد أن أوضح الماوردي قواعد تأسيس الملك أو السلطة والتي تعرضنا لها فيما سبق، يقول الماوردي «أما سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره فتشمل على أربعة قواعد. عمَارَة الْبلدَانِ وحراسة الرّعية وتدبير الجند وتقدير الْأَمْوَال...)
وظائف الملك: 
أولا: حراسة الدين: الوظيفة العقيدية.
 بتأسيس السلطة على الدين تأسيس القوة أو ولاية التغلب »، إذ أن قيامه بهذه الوظيفة مما يساعد على استقرار الملك، واعطائه نوعًا من الشرعية  الواقعية أو شرعية الممارسة، يقول الماوردي :«إن الدين يصلح سرائر القلوب، ويمنع من ارتكاب الذنوب، ويبعث على التأله والتناصب، ويدعو إلى الألفة والتعاطف، وهذه قواعد لا تصلح الدنيا إلا بها ولا يستقيم الخلق إلا عليها، ويضيف الماوردي مخاطبًا الجوانب النفسية الملك خليفة الله في بلاده، ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته، فالسعيد من وقي الدين بملكه، ولم يوق الملك بدينه، فأحيا السنة بعدله، ولم يمتها بجوره، وحرس الرعية بتدبيره، ولم يضعها بتدميره، ليكون لقواعد ملكه موطدًا، ولأساس دولته مشيدًا، ولأمر الله في بلاده ممتثلاً، فلن يعجز الله استقامة الدين عن سياسة الملك، وتدبير الرعايا...»
    فغاية السلطة هو تحقيق مقصد (حفظ الدين)؛ والذي بدوره التعبير العملي عن الحفاظ وإنجاز قيمة (التوحيد) في واقع الممارسة العملية.
1 ـ إقامة السلطة وتأسيسها على الدين 
2 ـ حماية الدين وقواعده الأساسية، وذلك من تحريف المبتدعين ومن تخريب المنافقين والمرجفين ويرى الماوردي أيضًا أن من الأسباب المفضية إلى انحلال الملك وتدهوره «أن يكون الملك ممن قد أحدث بدعة في الدين شنعة، واختار فيه أقوالاً بشعة يفضي استمرارها إلى تبديله، ويؤل إلى تغييره وتعطيله.»
3 ـ إقامة الكيان الاجتماعي وتأسيسه على القيم الأساسية للعقيدة والمنهج المنبثق منها...  يقول رحمه الله «أن يكون الملك ممن قد استهان بالدين، وهوّن أهله، فأهمل أحكامه، وطمس أعلامه، حتى لا تؤدي فروضه، وتوفي حقوقه، إما لضعف عزمه في الدين، وإما لانهماكه في اللذات، فيرى الناس أن الدين أقوم، ولحقوقه وفروضه ألزم فيصـير دينه مدخولاً، وملكه محلولاً...» 
    ويري واجب السلطة ازاء هذا الكيان من ناحية الدين، متمثلاً في حراسة الرعية: «حملهم على موجب الشرع في عباراتهم ومعاملاتهم، وإقامة حدود الله تعالى وحقوقه فيهم إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» ويذكر عشرة وظائف ما يتعلق منهم أو يندرج في إطار الوظيفة العقيدية هي:
ـ حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذ بما يلزمه من الحقوق، ليكون الدين محروسًا من الخلل والأمة ممنوعة من الزلل.
ثانياً: الوظيفة الاستخلافية:
ـ وتشمل هذه الوظيفة على سياسة الدنيا وحسب الماوردي «سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره، وتشمل على أربعة: عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتـدبير الجند، وتقدير الأموال 
مهام الملك الاستخلافية ثلاثة مهام: 
المهمة الأولى العمران
ويفصل الماوردي في ذكر وظيفة العمران «... فإما القاعدة الأولى وهي عمارة البلدان، فالبلاد نوعان: مزارع، وأمصار. فأما المزارع فهي أصول المواد التي يقوم بها أود الملك، وتنتظم بها أحوال الرعايا، فصلاحها خصب وثراء، وفسادها جدب وخلاء. وأما الأمصار فهي الأوطان الجامعة. وهي نوعان: مصر مزارع وسواد، ومصر فرصة تجارة...».
ويري الماوردي أن هذه الوظيفة منوطة بشكــل أساسي بالسلطة، يقــول: «وحفظ السلطان في عمارة البلدان والأوطان أو فيمن حفظ رعيته، لأنه أصل هم فروعـه، ومتبـوع هـم أتباعـه»
ولكي تستطيع المدينة أن تحقق الأهداف المرجوة منها ثمة مجموعة من الشروط منها: توافر المياه، وإمكان الميرة من الريف القريب، واعتدال مناخ المكان، ووجود ضواحي خصبة، وحصانة الموقع.
فإذا توافرت هذه الشروط استقر لمصر واستمر، واستحال زواله ووظيفة العمران تتحقق من خلال وظيفتين فرعيتين هما: الوظيفة الانمائية، والوظيفة الأمنية، وحينما طالب التنزيل المسلمين بتحقيق غايات الوظيفة العقيدية والاستخلافية قرن ذلك بأنه حـقق لهــــــــــم (الإنماء) من جانب و(الأمن) من جانب آخر {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُـمْ مِنْ خــَوْفٍ} (قريش/ 3).
المهمة الثانية المتابعة وتفقد الرعية (وهو قيام الملك بمتابعة أحوال الرعية) وهي إحدى عشر عملاً
1-تفقد الْملك سيرة حماة الْبِلَاد وولاة الْأَطْرَاف
2-استخبار الْملك عَن رَعيته وحاشيته والنائبين عَنهُ
3-استخبار الْملك عَن رَعيته وحاشيته والنائبين عَنهُ ويكون مؤتمن وقوي (مراقبة الحدود)
4-حذر الْملك قبُول السّعَايَة فِي أَصْحَابه (قبول الوشاية)
5-مراقبة أَحْوَال النُّقُود وَأمر جبايتها (مراقبة عدم التزوير)
6-الاهتمام بأمن السبل والمسالك (الاهتمام بالطرق)
7-مداهنة الْأَعْدَاء (الأخذ بالحيلة مع الأعداء)
8-مُسَاوَاة الْملك نَفسه مَعَ الرّعية يقول رحمه الله (أَن يُسَاوِي بَين نَفسه ورعيته فِي الْحق لَهُم وَعَلَيْهِم وَلَا يقدم شريفا على مشروف وَلَا يمايل فِيهِ قَوِيا على ضَعِيف ويعدل بَين جمعهم فِي الْقَضَاء وَيجْرِي الحكم على الْخَاصَّة والعامة بالسواء فَإِن الله تَعَالَى قد سوى بَين عباده من غير تَفْضِيل وماثل فِيهِ بَين الْعَزِيز والذليل...)
9-رِعَايَة الْعلم ومراعاة الْعلمَاء
10-استخبار الْملك عَن رَعيته وحاشيته والنائبين عَنهُ
11-فعله للخير دَائِما

وقد اتضح ذلك مما أورده الماوردي بصدد حراسة الرعية ـ وضمنها عشرة أشياء منها:
أ) تمكين الرعية من استيطان مساكنهم وادعين، والتخلية بينهم وبين مساكنهم آمنين.
ب) كف الأذى والأيدي الغالبة عنهم.
جـ) أمن سبيلهم ومسالكهم.
د) القيام بمصالحهم في حفظ مياههم وقناطرهم.
هـ) تقديرهم وترتيبهم على أقدراهم ومنازلهم فيما يتميزون به من دين وعمل، وكسب وصيانة، إذ ينبه الماوردي السلطان إلى ضرورة قضاء حاجات الجند بدقة وسرعة لتظل هيبته فيما بينهم، ثم يطلب إليه إنصافهم ـ 
يقرر الماوردي في ذلك «أما القاعدة الثالثة ـ وهي تدبير الجند ـ فلأن بهم ملك حتى قهر، واستولى حتى قدر؛ فإن صلحوا كانت قوتهم له، وإن فسدوا صارت قوتهم عليه. وتدبيرهم الذي يحفظ عليهم طاعتهم ويستخلص به نصرتهــم يكــون بأربعــة شـــروط. 
وفي النهاية فإن الماوردي يرى أن السلطان إذا قام فيهم بهذه الحقوق فهي السياسة العادلة والسيرة الفاضلة التي تستخلص بها طاعة الرعية، وينتظم بها المملكة.
المهمة الثالثة العدالة
وهي وظيفة تعبر عن قيمة محورية في بناء القيم الإسلامي، فالعدالة قيمة كلية محورية وفريضة، فعلى السلطة التزام مبدأ العدالة 
ويحاول الماوردي أن يحدد مقومات وظيفة «وأصل ما تبنى عليه السياسة العادلة في سيرة الرعية بعد حراسته الدين وتخير الأعوان أربعة : الرغبة والرهبة والإنصاف والانتصاف، فأما الرغبة فتدعو إلى التآلف، وحسن الطاعة، وتبعث على الإشفاق، وبذل النصيحة، وذلك من أقوى الأسباب في حراسة المملكة، وأما الرهبة فتمنع خلاف ذوي العناد وتحسم سعي أهل الفساد حذرًا من السطوة وإشفاقًا من المؤاخذة، وذلك أقوى الأسباب في تهذيب المملكة، وأما الإنصاف فهو عدل يفصل بين الحق والباطل يستقيم به حال الرعية وتنتظم به أمور المملكة، فلا ثبات لدولة لا يتناصف أهلها، ويغلب جورها على عدلها.. وأما الانتصاف فهو استيفاء الحقوق الواجبة، واستخراجها بالأيدي العادلة، فإن فيه قوام الملك، وتوفير أمواله، وظهور عزه، وتشييد قواعده وليس في العدل   ترك ما من وجهه، ولا أخذه من غير وجهة، بل كلا الأمرين عدل، لا استقامة للملك إلا بهما فالسياسة العادلة والتي تتم في إطار حراسة الدين» 
والسياسة العادلة ـ كما سبق القول ـ والتي تتم في إطار حراسة الدين، تعد منطلقًا ومنطقًا كليًّا يسيطر على جميع المدركات والممارسات المتعلقة بوظائف السلطة السياسية. 
 وأيضا الأمور المالية يقول الماوردي: «أما القاعدة الرابعة وهي تقدير الأموال؛ فلأنها المواد التي يستقيم الملك بوفورها. ويختل بقصورها، وتقديرها على الملوك مستصعب لأنهم يرون بفضل القدرة بلوغ كل غرض، ودرك كل مطلب، فإن وصلوا إليه بالأسهل الألطف وإلا توصلوا بالأصعب الأعنف». يقول رحمه الله (أقاموا بفضل الحزم على السياسة العادلة حتى وقفت بهم القدرة على تقدير الأموال)
فالأموال -كما يقول -تقديرها معتبر من وجهين، أحدهما تقدير دخلها، وذلك مقدر من أحد وجهين، إما بشرع ورد النص فيه بتقديره، فلا يجوز أن يخالف، وإما باجتهاد ولاة العباد فيما أداهم الاجتهاد إلى وضعه وتقديره، ولا يسوغ أن ينتقض، وإذا ردت إلى القوانين المستقرة ثمرات بالعدل، وكان إضعافها بالجور ممحوقًا».
ثم يربط الماوردي ـ مرة أخري ـ هذا الجانب بوظيفة العدل والسياسة العادلة في قوله «وإذا ردت إلى القوانين المستقرة أثمرت بالعدل، وكان إضعافها بالجور ممحوقاً. »
ويضيف الماوردي الجانب الثاني ـ في تقدير الأموال ـ والمتعلق بـ «النفقات» يقول «والثاني تقدير خرجها، وذلك مقدر من وجهين، أحدهما بالحاجة فيما كانت أسباب لازمة أو مباحة والثاني بالمكنة حتى لا يعجز منها دخل، ولا يتكلف معها 
يقول الماوردي «ثم لا يخلوا حال الدخل إذا قوبل بالخرج من ثلاثة أحوال. ».
الأول: زيادة الايرادات عن المصروفات:
يقول الماوردي «أحدهما: أن يفضل الدخل عن الخرج، فهو الملك السليم، والتقدير المستقيم، ليكون فاضل الدخل معقدًا لوجوه النوائب، ومستحدثات العوارض، فتأمن الرعية عواقب حاجته، ويثق الجند بظهور مسكنته، ويكون الملك قادرًا على دفع ما طرأ من خطب، أو حدث من فرق، فإن للملك فنونًا لا ترتقب، وللزمان حوادث لا تحتسب»
يري الماوردي أن هذه الحالة التي تزيد فيها الإيرادات عن النفقات هي الحالة التي تكون فيها السياسة مستقيمة والسلطة سليمة، إذ أن فائض الإيرادات يمكن الاستعانة به لمواجهة الظروف الطارئة بكل ما يترتب عليها من مخاطر غير متوقعة.
الثاني: نقص الإيرادات عن المصروفات:
يقول المارودي «... والحال الثانية أن يقصر الدخل عن الخرج، فهو الملك المعتل والتدبير المختل لأن السلطة بفضل قدرته يتوصل إلى كفايته كيف قدر، فيتناول ما وجب. ويطالب بما لا يجب، وتدعو الحاجة إلى العدول عن لوازم الشرع وقوانين السياسة إلى حرف يصل به إلى حاجته ويظفر بإرادته، فيهلك معه الرعايا، وينبسط عليه الأجناد، وتدعوهم الحاجة إلى مثل ما دعته فلا يمكن قبضهم عن التسلط وقد تسلط، ولا منعهم من الفساد وقد أفسد، فإن استدرك أمره بالقنع، وساعده أجناده على الاقتصاد، وإلا فإلى عطب ما يؤول الفساد»
وهذا الحالة عكس الأولى تقل الايرادات عن المصروفات، وتكون السياسة مختلة وغير منضبطة بأية حدود أو ضوابط، والسلطة معتلة قد أصابها الوهن والأمراض، فالسلطان يستخدم قدرته للحصول على ما يريد بدون وجه حق؛ فيجور على الرعية، ويتجرأ أجناده على التسلط والفساد لأنهم رأوه يفعل الشيء ذاته... وبذلك تؤول الأمور إلى فساد...
الثالث: تساوي الإيرادات والمصروفات: يقول الماوردي «... والحالة الثالثة، أن يتكافأ الدخل والخرج حتى يعتدل ولا يفضل، ولا يقصر، فيكون الملك في زمان السلم مستقلاً، وفي زمان الفتوق والحوادث مختلاً؛ فيكون لكل واحد من الزمانين حكمه، فإن ساعده القضاء بدوام السلم كان على دعته واستقامته، وإن تحركت به النوائب كده الاجتهاد، وثلمه الأعوان، فيجعل الملك ذخيرة نوائبه في مثل هذه الأحوال الإحسان إلى رعيته، وتحكيم العدل في سياسته، ليكون بالرعية مستكثرًا، وبالعدل مستثمرًا»
وفي هذه الحالة تتساوى الإيرادات مع المصروفات، وهناك يفرق الماوردي بين زمان السلم والذي تكون فيه السلطة مستقرة ومستقلة في أمورها، وإذا ساعدت الظروف السلطة باستمرار هذا الوضع فإنها تستمر على هدوئها واستقرارها.
وبين زمان الفتوق والحوادث تكون السلطة مختلة، وهنا يداوي السلطان حالة الاختلال هذه بالإحسان إلى رعيته، وإقامة العدل بينهم وفي سياسته.
كما يعرض الماوردي أيضا لعملية تطبيق الجزاء وإنزال الحكم الشرعي على واقعة معينة بقوله «. فصل الخصام بين المتنازعين منهم.» وتلك وظيفة القضاء ويظهر من كلام الماوردي عن القضاة _ أو السلطة القضائية _ وهي أحد أهم أعمدة السلطة فهم «عماد مملكته، وقواعد دولته.» _ أنه ينوط بوظيفتهم مكانة رفيعة يقول: « هم موازين العدل، وحراس السنة باتباعها في أحكامهم، وبهم ينتصف المظلوم من الظالم في رد ظلامته، والضعيف من القوي في استيفاء حقه».. ولذلك فإن الماوردي يذكر شروطًا لاختيار القضاة «والذي تفتضيه السياسة في اختيارهم بعد الشروط المعتبرة فيهم بالشرع أن يكون القاضي حسن العلانية، مأمون السريرة، كثير الجد، قليل الهزل، شديد الورع، قليل الطمع، قد صرفته القناعة عن الضراعة، ومنعته النزاهة من الشره، وكفه الصبر عن الضجر، وصده العدل عن الميل، يستعين بدرسه على علمه، وبمذاكرته على فهمه، لطيف الفطنة، جيد التصور، مجانبًا للشبه، بعيدًا عن الريب، يشاور فيما أشكل، ويتأتى فيما أعضل 
كونها صادرة عن سلطة معينة، ولذلك نجد أن الماوردي عندما تحدث عن أربعة طبقات هم «عماد مملكته، وقاعدة دولته» أي أنهم أعمدة السلطة وأركان الدولة _ ذكر «الطبقة الأولى: الوزراء، الطبقة الثانية: القضاة والحكام، الطبقة الثالثة : أمراء الأجناد، الطبقة الرابعة : جباة الأموال وعمار الأعمال» وخلاصة الأمر فإن منطق العدل هو الذي يسود
    وإذا كانت القيم تتصاعد لكي تصب في قيمة عليا ومحورية (قيمة التوحيد)، وكذلك الأمر بالنسبة للمقاصد (مقصد حفظ الدين)؛ فإن الوظيفة العقيدية للسلطة _ حسب التحديد السابق _ جوهرها قيمة التوحيد ومقصــدها حفظ الدين، وقياسًـــا على ذلك فإن وظــائف الســلطة تشكل منظومـــة متصــاعدة لتصــب في الوظيفة الأسـاســية والمحورية للسلطة، وهي الوظيفة العقيدية 
اختلال السلطة وانهيارها
«فساد الزمان، وتغير الأعوان»
إذا كان استقرار السلطة منوطًا بالقيام بالوظائف فإن عدم القيام بها أو القيام ببعض الجوانب والتقصير في البعض الآخر، يؤدي إلى تعرض السلطة لمجموعة من الاختلالات يمكن أن تقود في نهاية الأمر إلى انهيارها، والماوردي يرى أن ظاهرة السلطان _ أو السلطة _ ظاهرة بشرية وطبيعية وبالتالي «يجري على السلطان سنن الأكوان، حيث يعيش القوة والمنعة، ويعتريه الضعف، ويصاب بالاختلال والاعتلال» يقول الماوردي، «وأشد ما يمنى به الملك في سياسة ملكه شيئان: أحدهما أن يفسد عليه الزمان، والثاني أن يتغير عليه الأعوان»
أولاً: فساد الزمان:
يذكر الماوردي أن من أسباب اختلال السلطة وانهيارها ما يطلق عليها «فساد الزمان» ويفصله: «فأما فساد الزمان فنوعان، نوع حدث عن أسباب إلهية، ونوع حدث من عوارض بشرية.
أ) فالأسباب الإلهية لفساد الزمان:
قد يكون لأسباب «إلهية» كالقحط والسيول. وهنا يكون علاجها كما يرى الماوردي _ إصلاح السريرة: سريرة السلطان وسريرة رعيته، بالإضافة إلى دعاء الله _ عز وجل _ «فأما الحادث عن الأسباب الإلهية فينبغي أن يقابلها الملك بأمرين، أحدهما: إصلاح سريرته وسرائر رعيته، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال «إذا جارت الولاة قحطت السماء، والثاني، أن يتطامن لها إذا لفحتها، معان في شدتها، فما عن أقضية الله صاد، ولا عن أوامره راد، فالسلم فيها أسلم، ودفاع الله عنها أقوم»
ب) أما الأسباب المتعلقة بسلوك البشر:
سواء كان متعلقًا بالسلطان الذي قد يظلم، أو بالرعية _ التي قد تجور أو تفسد _ وسنعود إلى معالجة ذلك بالتفصيل فيما بعد _ وعلاج هذه المظاهر إنما تكون بعلاج أسبابها وجذورها. وكما يقول الماوردي «... وأما الحادثات عن العوارض البشرية من أفعال العباد، فهي التي يساس فسادها بالحزم حتى تنحسم، وبالاجتهاد حتى تنتظم، فليس ينشأ الفساد إلا عن أسباب خارجية عن العدل والاقتصاد، ولا تحسم إلا بحسم أسبابها. فيراعي الملك سبب الفساد، فإن كان حادثًا عن شدة وعسف وعنف حسمه باللين واللطف، وإن حدث عن لين وضعف حسمه بالشدة والعنف، وكذلك ما عداهما من الأسباب تنحسم بأضدادها، فإن حسم الداء بضده من الداء»
    فالماوردي يرى أن علاج الظواهر يكون بعلاج الأسباب المفضية إليها في الواقع العلمي، فظلم السلطان يكون بالتراجع عن هذا الظلم، وسياسة الأمور بالحزم وليس بالعسف.
ثانيًا: تغير الأعوان:
وهو العامل أو السبب الثاني الذي يذكره الماوردي من أسباب اختلال السلطة وانهيارها، وهو في هذا الصدد يربطه بداية بالسبب الأول «فساد الزمان»، فأهل الزمان _ من الرعية وأعوان السلطة _ ينطلق منهم فساد الزمان وإليهم يعود في الوقت ذاته.» وتقلب الزمان بأحوال أهله يعود عليهم بخيره وشره، رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم _ أنه قال: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وكان أمركم بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وكان أغنياؤكم بخلاؤكم، وكان أمركم إلى نسائكم، فبطــــن الأرض خير لكـم من ظهرها»
يحدث تغير الأعوان في صورتين:
أ) أن يكون لظلم وقع على الأعوان:
 فالأعوان قد يقع عليهم ظلمًا فيتغيروا «فإذا كان تغيرهم لفساد تعدى عليهم عوجلوا بحسم أسبابه قبل تفاقمها، فسيجدهم بعد حسمها على السداد، فإن أهملوا فلكل برهة تمضي من زمانهم تأثير في استحكام فسادهم حتى يفضي إلى غاية لا تستدرك؛ لأن حسم ما استحكم متعذر مستبعد»
وهنا يركز الماوردي على أهمية عامل الوقت في علاج هذا الظلم الذي يجب أن يتم بسرعة حتى لا تتفاقم الأمور ويصعب العلاج بعد ذلك.
ويعدد الماوردي أسباب هذه المسألة:
1_ أن يكون هناك تقصير من هؤلاء الأعوان، وعلاجه بمنع هذا التقصير واقعيًّا.
2 ـ أن يكون هناك عدوان عليهم، وعلاجه يكون بالكف عنهم.
3 ـ أن يكون هناك طمع أفسدهم، وعلاجه ـ كما يري الماوردي ـ من أصعب الأمور، ويحتاج معالجة القلوب وتعديل السلوك.
ب) أن يكون الفساد لظلم وقع من الأعوان:
ويرى أن الصورة الثانيــة أخطــر وأصعــب من الأولــى «فالفساد الطارئ منفصل، والناشئ متصل»، أما الوجه الثاني «فإن الطارئ ظهر قبل حلول فيهم فأمكن تعجيل استدراكه، والناشئ ظهر بعد استحكامه فيهم، فتعذر تعجيل استدراكه فلزم لدغل دائه وعضل دوائه أن تقرر في تلافيه، وحسم دواعيه، قواعد كل حالة على قاعدتها ويدبر بموجبها» فالفساد الناشئ لظلم وقع من الأعوان هو الأخطر لأنه يتصل بطبيعتهم وكيانهم، وهو لا يظهر إلا بعد أن يعمل في الجسد ويستحكم فيه. وبالتالي يتطلب التدبير والسياسة لكي يتم التعامل معه على أساس واقعي وسليم
    إن سياسة السلطة تتم بأمور ثلاثة وهي: بالقوة في الحراسة والحفظ، وبالرأي في التدبير والانتظام، وبالمكيدة في التعامل مع الأعداء. و«هذا أصل معتمد عليه مدار السياسة، ويحمل عليه تدبير الملك» ويعود الماوردي ليؤكد أن للسلطة ثلاثة أوضاع ـ تحقيق الاستقرار، وسياسة أمور الرعية، وتحقيق استدامة الأعوان «للملك ثلاثة أحوال، فالحال الأولي: تثبيت قواعده، والحال الثانية: تدبير رعيته، والحال الثالثة: استقامة أعوانه»
ويرصد الماوردي أربعة صور للمسألة بالنسبة لعلاقة السلطة مع الرعية أو المجتمع.
الأولى: صلاح السلطة والمجتمع أو الرعية (نمط العلاقة العادلة):
يقول الماوردي في ذلك الصدد «ملك صلحت سريرته، واستقامت رعيته، فأعين على صلاح السيرة باستقامة رعيته، وأعينت الرعية على الاستقامة بصلاح سيرته فهذا هو العدل منهما» 
فطرفي العلاقة يتدبر الأمر بمنطق الاصلاح والاستقامة ومن هنا فجوهر العلاقة هو سيطرة العدالة وسيادتها.
الثانية: صلاح السلطة وفساد المجتمع (نمط العلاقة المختلة):
وهي صورة مختلّة باختلال أحد طرفيها، وكما يرى الماوردي أننا إزاء «ملك صلحت سيرته وفسدت رعيته، فقد أضاعت الرعية بفسادها صلاح ملكها، وخرجوا من سكون الدعة إلى زواجر السياسة فاحتاج إلى تقويمهم بالشدة بعد لينه، وبالسطوة بعد سكوته، ليقلعوا عن الفساد إلى السداد فليكف عنهم، والعدل في الحالتين مستعمل معهم» 
وهنا اختلال أو فساد في أحد طرفي العلاقة ـ الأمر الذي ينعكس على طبيعة العلاقة بينهما... وبالتالي فإن السلطة يمكن أن تأخذهم بالشدة -ولكن في إطار منطق العدل -لكي تعود العلاقة المختلة إلى حالة الاستقرار والاستواء.
الثالثة: فساد السلطة وصلاح المجتمع (نمط العلاقة المختلة):
وهذه الحالة المقابلة للحالة السابقة، فنحن إزاء صلاح المجتمع والرعية من ناحية، وفساد السلطة من ناحية أخرى فيحدث اختلال في طبيعة العلاقة بينهما وإما أن يتغلب المجتمع والرعية على صاحب السلطة فيقومون بإصلاحه وإرجاعه لمنطق العدل والاستقامة، وإما أن يخلعوه وينصبوا غيره، وكما يري الماوردي فإن هذا القسم الثالث نحن بصدد « ملك فسدت سيرته واستقامت رعيته فإن استدرك صلاح ملكه بعدل مسيرته وصحة سياسته، وإلا تطاولت عليه الرعية بقوة الاستقامة»  ويحدد الماوردي احتمالين لعملية اصلاح وتصحيح هذه العلاقة المختلة « كان معهم بين أمرين : أحدهما : أن يصلحوه حتى يستقيم، فيصير مأمورًا بعد أن كان آمرًا، ومقهورًا بعد أن كان قاهرًا، وتزول هيبته، وتبطل حشمته، ولا يبقي له من الملك إلا اسم مستعار قد استبقوه تفضلاً، والثاني : أن يعدلوا إلى غيره فيملكوه عليهم فيكونوا له أعوانًا إن نوزع، وأنصارًا إن قورع ».
وهكذا نصل إلى النتيجة المنطقية وهي أن السلطة بهذا الفساد وذلك النمط من العلاقة السياسية تؤدي بها إلى الاختلالات وأيضًا إلى الانهيار، فيصير بفساد سيرته مزيلاً لملكه، ومعينًا على هلكه، كما ينص الماوردي.
الرابعة: فســاد السلطة والمجتمـع (نمط العلاقة المتداعية):
وهذه الحالة مقابلة للحالة الأولى وضدها، فنحن إزاء فساد الطرفين الراعي والرعية، السلطة والمجتمع.... وبالتالي إزاء علاقة فاسدة قوامها الفساد ومنطلقها الظلم. ومن ثم لابد أن تتداعى وتنهار السلطة، ويوضح الماوردي ذلك بعبارة صريحة في حديثه عن القسم الرابع: ملك فسدت سيرته، وفسدت رعيته» فاجتمع الفساد في السائس والمسوس، فظهر العدوان من الرئيس والمرؤوس، فلم يتقاصر عن فساد، ولا دعا إلى صلاح، فخرجت الأمور عن سبيل السلامة، وزالت قوانين الاستقامة، وهو بمرصد من تأثر يصطلم، وقاهر ينتقم» ثم ينتقل الماوردي ما ينسبه إلى أردشير بن بابك: «بمثل هذا الملك، وهذه الرعية تختم الدول، وتستقبل الفتنة، وتذال الدهـور» 
    يرصد الماوردي في هذا الصدد أمرين « استقامة الأعوان ضربان أحدهما : حالهم في السكون والدعة، فيساسون بالرأي وحده في تدبيرهم بالرغبة والرهبة حتى تستقر أمورهم على السيرة العادلة « أما النمط الثاني ـ والذي يهمنا في هذا الصدد وركز عليه الماوردي - حالهم في تغيرهم وفسادهم على ضربين أحدهما أن يكون الفساد خاصًّا في بعضهم فيساس من فسد منهم بأمرين : بالقوة في إصلاحهم بمن سلم، وبالرأي في تدبير أمورهم كالمسالم ليسيروا جميعًا على السيرة « العادلة »، ويلمح الماوردي ظاهرة تحزب الأعوان وأخطارها وعلاقتها بالفساد، فإن انتشار فسادهم من كثرة رؤسائهم المتنافسين في الرتب، فيجتذب كل رئيس حزبًا يدعوهم إلى طاعته، ويبعثهم على نصرته، فيصيرون أحزابًا مختلفين، وأضداداً متنافرين فهذه حاله إن كثروا، وهم بالضـــد منها إن قلوا
النوع الأول من الفساد وهو العام في جميع الأعوان، وقد يظهر منهم وقد يستروه فإن ستروه فسياستهم تكون بالرأي وحده، 
 إن أظهروا الفساد يأخذ صورًا ثلاثة عددها الماوردي:
أ -الفساد المتعلق بانتهاك حقوق الرعايا واستباحة أموالهم، ويرى علاج ذلك من قبل السلطة بالقيام باجتذاب فريق من هؤلاء باللين، فعساه يقوى فيمنع ويشتد فيدفع وإلا فالملك واه، والفساد متناه. »
ب ـ الفساد المتعلق بالإسراف في مطالبة السلطان بما لا يستحق الأعوان ـ سواء أن يكون قادرًا عليه، أو عاجزًا عنه ـ ففي حالة قدرة السلطان عليه تكون مطالبة الأعوان له بما لا يستحقون فيه نوع من الاستطالة على السلطان وإسقاط الحشمة. ويرى الماوردي ـ بواقعية ـ أنهم يساسون بالرأي والخداع، ويتوصل إلى رضاهم سرًا وجهراً. 
ج ـ الفساد المتعلق بالتعرض للسلطة ذاتها ولصاحبها ـ ويراها الماوردي أخطر أنواع الفساد إلا إذا كان السبب راجعًا لسوء سيرة صاحب السلطة ذاته، ولأنهم ملوا منه بسبب طول مكثه وهنا كما يقول الماوردي فإنه يسوسهم باللطف والتأمين واستصلاح فريق بعد فريق. ويشير إلى سبب ثالث وهو حدوث إغراء من عدو وهناك ينبغي لملك ألا يتراخى حتى لا يستأصل.
ويفصل الماوردي ويتقصي في أوضاع فساد الأعوان لينتهي بصياغة اتجاه عام فحواه أن فساد الأعوان ملازم لفساد الراعي والرعية، وصوره متنوعة بقدر تنوع صور فساد الأولين على ما أسلفنا الحديث.
النوع الثاني هو عدم قيام الأعوان بالواجبات والأعمال (الوظائف):
وإذا كان تمتع السلطة بالشرعية مُفضيًا إلى استقرارها، فإن نقصان هذه الشرعية ـ والذي يُبنى بدوره على إهمالها أو عدم قيامها بوظائفها ـ يفضي إلى حدوث عدم استقرار، ودرجات من الاختلال يمكن أن تصل إلى الانهيار الكامل حينما تتخلى السلطة عن وظائفها أو تقوم بممارسة نقيض هذه الوظائف في واقع الممارسة العملية.
مهام الوظائف التي يقوم بها الملك ومن ذلك عدم القيام:
أ) عدم القيام بالوظيفة العقدية
 وكما يقول الماوردي «فالسلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لبث، وكان سلطان قهر، ومفسد دهر. فالملك بالدين يبقـي، والـديـن بالملــك يقوى»
يرى الماوردي أن إهمال الانطلاق من الدين في الممارسة والسلوك ـ سواء على المستوى الجزئي أو الكلي ـ بحيث يصبح هو منطلق العملية الاتصالية بكافة أبعادها، أو محاولة إبعاده، وتحييده تؤدي إلى تدهور السلطة وتحللها وفي بعض الأحيان انهيارها.
1 -فعلى المستوى الجزئي: يقول الماوردي رحمه الله «ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل دينًا منه، كما يأنف أن يكون فيهم أنفذ أمرًا منه.»  وقد قيل «الملك خليفة الله في بلاده ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته»
2 ـ وعلى المستوى الكلي: يقول الماوردي «وربما أهمل بعض الملوك الدين وعول في أموره على قوته، وكثرة أجناده، وليس يعلم أن أجناده إذا لم يعتقدوا وجوب طاعته في الدين كانوا أضر عليه من كل مباين.


أسباب انتقال السلطة:
السبب الأول الذي ذكره الماوردي ـ في أسباب انتقال السلطة وقد عبر عنه الماوردي «وليس يخلو انتقال الملك به من ثلاثة أسباب أحدها: ان يخرج الملك من منصب الدين حتى يتولى عليه غير أهله، ويظهر منه خلاف عقده»، ويشرح خطورة هذا الأمر بالتفصيل حتى يصل إلى النتيجة وهي أن السلطة تكون مرشحة للانهيار «لايزال الجائر من الملوك ممهلاً، حتى يتخطى إلى أركان العمارة، ومباني الشريعة فإذا قصــدها اقـــتربت مدتــه»
السبب الثاني من أسباب انتقال السلطة وانهيارها ـ كما يذكر الماوردي ـ ألا تقوم السلطة أو تمكن مجتمعها من القيام بواجبات الدين ولا تستهين به، وأن تحترم شعائره وعلمائه؛ فكما يقول الماوردي «أن يكون الملك ممن قد استهان بالدين، وهون أهله، فأهمل أحكامه، وطمس أعلامه حتى لا تؤدي فروضه، وتوفى حقوقه، إما لضعف عزمه في الدين، وإما لانهماكه في اللذات، فيرى الناس أن الدين أقوم، ولحقوقه وفروضه ألزم، فيصـير دينـه مدخــولاً، وملكه محلـــولاً» 
وهنا فإن الرعية أو المجتمع ـ كما يشرح الماوردي ـ تذهب إلى الدين لأن طريقة هو الواجب الاتباع، وحقوقه وواجباته هي الأجدر بالرعاية ويحدث الافتراق بين السلطان والقرآن.
السبب الثالث من أسباب انتقال السلطة وانهيارها فهي الابتداع في الدين، والتبديل في أحكامه، والتغيير في قواعده وتعطيله... إلخ (91). يقول الماوردي «أن يكون الملك ممن قد أحدث بدعة في الدين شنعة، واختار فيه أقوالاً بشعة يفض استمرارها إلى تبديله، ويؤول إلى تغييره وتعطيله، فتأبى نفوس الناس بغير دين قد صح لهم معتقده، واستقرت في القلوب أصوله وقواعده، فيصير دينه مرفوضًا، وملكه منقوضاً» 
ويقول الماوردي رحمه الله «فإذا طرأ على الدين هذه الأسباب الثلاثة، ونهض إلى طلب الملك من يقوم بنصرة الدين، ويدفع تبديل المبتدعين، ويجري فيهم على السنن المستقيم أذعنت النفوس لطاعته، واشتدت في مؤازرته ونصرته، ورأوا أن بذل النفوس له من حقوق الله المفترضة وأن النصرة له من أوامره.».
ب) عدم القيام بوظيفة العمران: 
    إذا لم تقم السلطة بعمارة البلاد، خربت وكما يرى الماوردي «فإن نال أهله فيه حيف، فرقهم الحيف في سواده، فأصابوا عيشًا، ودافعوا عن زمان الحيف وقتًا، وإن جار السواد على أهله كان لهم في المصر أمن وملاذ، ويكون كل واحد منهم للآخر معاذ»     فمن العناصر المفوضة للسلطة عجزها عن إدارة البلاد وعمارتها وحسن تسييرها وتدبيرها، ولذلك فإن الماوردي ينصح الملك «وليهتم الملك كل الاهتمام بأمن السبل والمسالك وتهذيب الطرق والمفاوز لينتشر الناس في مسالكهم آمنين، ويكونوا على أنفسهم وأموالهم مطمئنين، ولا يقتصر على حماية ما يستمده من بلاده وسواده».  فعجز السلطة عن القيام بالأدوار المتوقعة منها من قبل الرعية أو المجتمع في هذا الجانب يؤدي إلى انتشار الخوف والفزع وعدم الأمن وهو الأمر        
    الذي يرجعه الماوردي جزئيًّا إلى تولية غير الكفاة المناصب العليا ويقول رحمه الله من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله، فقد ضيع العمل وأوقع الخلل، ومن استوزر غير كاف خاطر بملكه» 
    وكان يجذر من انتشار المحسوبيات في السلطة يقول الماوردي رحمه الله «وليحذر الملك تولية أحد بشفاعة شفيع أو لرعاية حرمة إذا لم يكن مضطلعًا بثقل ما ولي، ولا ناهضًا بعبء ما استكفي فيختل العمل لعجز عامله» 
ج) عدم القيام وظيفة العدالة:
نقيض القيام بوظيفة العدل، ممارسة الظلم بمعناه الشامل، وهو أمر يمثل مدعاة لانهيار السلطة وتقوضها، فالظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عنصر أساسي لتحلل السلطان -يقول الماوردي في إمارة التغلب وسلطة القوة «فاذا توثبوا على الملك بالكثرة، واستولوا عليه بالقوة، كان ملك قهر. وإن جاوزوا وعسفوا فهي جولة توثب، ودولة تغلب يبيدها الظلم ويزيلها البغي، بعد أن تهلك بهم الرعايا، وتخرب بهم البلاد»
فهذه السلطة يؤثر على استقرارها الظلم ـ بدرجة كبيرة ـ بل إن هذا الظلم يؤدي إلى اهلاك الرعايا، وخراب البلاد، «فلا ثبات لدولة لا يتناصف أهلها، ويغلب جورها على عدلها، فإن الندرة من الجور تؤثر، فكيف به إذا كثر»
ويرى الماوردي أن الظلم وعدم العدل تظهر آثاره باستمرار على الرعية مما يؤثر على استمرار السلطة، ففي الجور وأكل أموال الناس بالباطل «ثم هو بين نفور رعيته واشتطاط أعوانه، وليس مع هذين ملك يستقر».
 إن اختلال السلطة وانهيارها ـ كما يقدمها الماوردي في الكتاب القيم 
أولها: ما يتعلق بفساد الزمان من أسباب إلهية وأخرى من سلوك البشر.
وثانيهما: ما يتعلق بتغير الأعوان أيًّا كانت مصادره وأسبابه ومتعلقاته.
وثالثها: ما يتعلق بممارسات السلطة ذاتها وعدم قيامها بوظائفها وأداء واجباتها.
كلها تتكامل في إحداث الاختلال، والتدهور، والانهيار لظاهرة السلطة في المجتمعات البشرية.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين